بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 17 نوفمبر 2007

قراءة في كتاب عبدالرحمن بن أحمد السديري (مقال)

أتيح لي أن أطّلع على كتاب (عبدالرحمن بن أحمد السديري.. أمير منطقة الجوف) الذي شارك في تأليفه مجموعة من الباحثين العارفين المتخصّصين، والكتاب يجمع بين السيرة الذاتية وواقع المجتمع، ولمحات عن تاريخ أسرة عريقة، فضلاً عما يحويه من تجسيد للقيم الرفيعة من صدق ووفاء وبذل وإخلاص وتواضع ومحبة للناس ، وحرص على تنمية جزءٍ غال من الوطن ، وتطوير مفاهيم المجتمع دون المساس بالثوابت.
ومن سوء حظي أني لم ألتق معالي الأمير عبدالرحمن بن أحمد السديري رغم أني في التسعينات من القرن الهجري المنصرم تجوّلت في كثير من مدن الشمال من المملكة، وكم تمنّيتُ لو تشرّفتُ بزيارة معاليه وحظيتُ بلقائه وسعدتُ بالجلوس إليه.
وأوّل ما شد انتباهي في هذا الكتاب القيّم حرص معالي الأمير على مجالسة الرجال والاستماع إليهم وتبادل الأحاديث معهم ومسامرتهم ، وهو في ذلك يحظى بالأخبار من مظانها، ويتعرف على حاجات الناس واحتياجاتهم فيما يساعده على توفيرها لهم، أو على أضعف الإيمان السعي فيها ، والوجه النافع ما يسمعه  يغبّ في قلبه  ويختمر في صدره ، فإذا أعمل فكره تلاحقتْ الأفكار مع الرأي السديد  فكانت النتيجة أفضل نتيجة وثمراتها أكرم ثمرة ، وقديماً قالوا مذاكرة الرجال تلقيح لألبابها.
ويتداخل حرصه - رحمه الله - على مجالسة الرجال مع نزعته الطبيعية على الكرم. وجبلّته بالجود، فهو من أسرة جُبلت على حفاوتها بالضيف، واشتهرت بالكرم، عبّأها الله لكل جسيم ، ورباها لكل عظيم - وأقرب شاهد في ذلك ما عرف عن جدّه (سليمان) الذي التزم بحماية كل من كان على مرأى من الجبل المطل على الغاط وهو خشم العرنية.
(دار عليها واضحات المواريد       **      ماهي عطا.. ورثتها عن جدودي)
(من شافها يامن عن الغدر والكيد  **     حموا حماها عن حسود وحقودي)
(أعلامها بحبالها والتواكيد           **     خشوم العراني ثبّتنْ الحدودِ)
ومظهر كرمه تجلَّى في دكّته التي بناها في جانب السوق ولم يجعل لها باباً ، ليستطيع الضيف وطارق الليل أن يؤمَّها، ويجد فيها ما يودّه ، وهي كما وصفت: (مفتوحة البيبان قدم المسايير) فلا يتردّد الطارق في دخولها ،وهذا ليس بغريب على من سُمِّيَ (بعشير ضيفه) وهو لقب اشتهر به رحمه الله عند كل الناس لحرصه على محبة ومجالسة ضيوفه ومؤانستهم بحديثه وبشاشته المشهودة المعهودة، وحسن استقباله لهم والترحيب بهم، وسجل واقع دكّته بقوله رحمه الله :
(ولي دكّةً ما صار من دونها باب        **      بنيّتها في جانب السوق راده)
(أبي إلى جا هاشل الليل ما هاب         **      يلقى بها مما يوده مراده
 (ويلقى بها من خيرة الربع شبّاب      **      قرمٍ يحض الضيف رغبه وعاده)
هذه صورة مختصرة جداً عن كرمه وبرّه ، فما لقيت فيما كتب عنه أنه استفرد بطعام أو استأثر بإكرام ، بل كانت نفسه كريمة  معطاءة، تأبى أن يغمزها مغمز أو يثلبها مثلب، وهو كسالفيه معطاءٌ  لا يبخل وكريم محب للضيوف ، وقاه الله من شح النفس فكان خلقه السخاء وطبيعته الكرم ، فاستحق بجداره ما قيل عنه (عشير الضيف، عشير المناعير) وتلك عادة الكرماء وسجية الأباة  . وكانت تجارته -رحمه الله- صحبة الأخيار، وهي مظهر اجتماعي ألّف به القلوب ، قلوباً أجمعت على محبته، واجتمعت على مودّته، هيّأها بلطفه وحدبه عليهم ومحبته لهم.
(أرّثت بالجوف غرس ودار       **      ولا تشبثت بتجاره)
(تجارتي صحبة الأخيار            **هذا هوى القلب وشعاره)
ونشأت بينه وبين مجتمع الجوف علاقة متينة قوامها رعايته لهم ، وثمرتها محبتهم له، فاستخرج مكنون محبته ببرِّ الإنسان (أي إنسان) وحماه الله عن سكر السلطان، وطغيان السلطة وإفراط التعظيم ، فاستحكم تجربته، وبعدت بصيرته  ، حتى عرف مصلحة إنسان الجوف بصلاح الفاسد (إن وجد فاسد)  ، وإقامه المعوج (إن ظهر المعوج) ،  وعمارة كل ما يحتاج لعمارة ، فاكتسب تقدير مجتمعه ، واعتبر بينهم نسيج وحده لجودة رأيه ، وبعد همته ، ونبل شيمه ، فانقاد له المجتمع الجوفي في محبة لا إذعانا، ومودة لا خضوعاً ، وما استوجب ذلك منهم إلاّ بعد أن عرفوا لبه، وتبين لهم عطفه وحدبه، ولم يستكرهوا منه بادرة تسيء إلى مصالحهم ، واجتهاده المستمر لمستقبلهم، ولم يكن له مطمع فيما بين أيديهم ، فاكتسب محبتهم ونال ثقتهم  ومودتهم ، والناسةعيون الله في الأرض ، لا يمحضون المحبة إلاّ لمن يستحقها، يقول فيه الشاعر خلف العواجي مجسّداً عواطف مجتمع الجوف:،
(الكل يحمل لك التقدير        **      شيّابنا هم والاولادي)
(حيثك بحالاتنا بصير         **      ومن شان مصلوحنا تفادي)
(لكل ظرف معك تدبير        **      ابنً حليمٍ وبولادي)
وبعد ماذا أقول عن شهم نهض بالمسؤولية والخدمة العامة أميراً لمنطقة الجوف وهو في الرابعة والعشرين من عمره ؟ ، ولم يسْتَـعْـفِ -رحمه الله- إلاّ وقد تجاوز السبعين، ولو لم تدركه أعراض الأمراض لما تخلَّى واسْتَـعْـفَـى.
إن استكناه شخصية الأمير عبدالرحمن بن أحمد السديري -يرحمه الله- متعة الباحث عن عشير الضيف، ولكنها في الوقت نفسه مضنية ، لتعدد الجوانب التي سوف يتطرق إليها، هل يتناول كرمه؟ وفي ذلك يطول الحديث، أيكتب عن مروءته ؟ وله في ذلك أوسع مجال ،  والاستطراد في تطلعاته ونظراته المستقبلية وطموحاته لخدمة المنطقة التي أحبها وأحبته ،  وفي ذلك تكثر الصحائف، أيستعرض حبه للزراعة وشغفه بعمتنا النخلة ؟ هل يعدد إنجازاته ومنجزاته ؟ وفي ذلك يستملح الحديث ، أو عن أناته وسعة صدره وحكمته وبعد نظره ؟ لاشك أنها مهمة صعبة عن رجل نذر نفسه لخدمة الوطن وإسعاد المواطن تلبية لرغبة القيادة التي أحسنت اختياره، فاستحق الثناء، لأنه كان آية من آيات علو النفس، وحسن الخلق وطيب المعشر حتى مع أتباعه ، وتلك لعمري ميزة حببته إلى كل من عرفه وعاشره.. وقد ختم الله له بالسعادة فأسعده بأبناء وبنات برره، تحلّوا بشيمه فارتفعوا في عيون الناس ، وحرصوا -كما أراد وابتغى والدهم- على العلم فاخذوه بأحسنه، وإنك لتجلس إلى أحدهم فتلقى من ثمار الفكر والمعرفة ما يغني ويبهج، اللهم أكثر حسادهم ، فإذا علقتهم الأمجاد هان عليهم الحساد، ولعمري لم يمت من خلف رجالاً وَوَرّث خصالاً تُـذكر فـتُـشكر..
رحمك الله أبا فيصل وسلام عليكم ما رفَّ طائر وتنفّس مخلوق.
نشرت في جريدة الجزيرة الاحد 8/11/1428 هـ