بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 16 يونيو 2007

إن الغصون إذا عدلتها اعتدلت(مقال)



تهتم اللغة العربية بمخارج الحروف عند النطق لتميّز بين حرف وآخر ، حتى لا يقع لبس في ادراك المعنى وفهمه ، والتراث العربي تراث سمعي يعتمد على الأذن في تمييز معاني الكلمات ، خصوصاً تلك التي تختلف معانيها باختلاف نطقها.
ومن المعروف ان العالم الّلغوي ( قُـطْـرُبْ) ألّف ثلاثيته المشهورة في اختلاف معنى الكلمة الواحدة عند نطقها  ضمآ أو فتحآ أو كسرآ ، فمثلاً كلمة ( الجنة ) إذا فتحت الجيم فهي دار النعيم بالآخرة، وإن ضُمّت الجيم كان معناها السُّترة أي ما يُستَتَر به، والعرب تقول : أجْـنَـنْـتُ الشيء في الصدر أي سترته أما إذا كُسر  حرف الجيم فمدلول الكلمة
< الجِن > والله عز وجل يقول في سورة الناس (( من الجِنة والناس )).
قلت ما قلت تدليلاً على اختلاف المعاني باختلاف حركة الحرف، فكيف إذا كان التغيير في مخارج الحروف. لقد استمرأنا مع الأسف التغيير نتيجة للتّلقين الأعمى فالثاء أصبحت (( س )) وبعضهم ينطقها (( ت ))
وحرف ال (( ظ )) أصبح (( ز ))
وحرف ال (( ذ )) أصبح (( ز ))
حتى حرف ال (( ض )) دخله عند النطق اعوجاج فيقال [ الظابط ] ويقصدون به [ الضابط ] كل ذلك استحداث وافد قلّده البعض ظناً أنه من مقوّمات التحضّر، وهو اعتياد سيىء يجب أن نجابهه  ، وأن نعوّد انفسنا على تقويم مخارج  حروفنا العربية التي نزل بها القرآن الكريم.
يُروَى أن أحد علماء اللغة كان لا يرى بأساً في نطق حرف الصاد سيناً لتشابه مخرج الحرفين، فجوبه برأيٍ معارضٍ دلّل على فساد ذلك فقيل له كيف تقرأ الآية الكريمة؟: ( ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ...) الآية فخجل صاحب ذلك الرأي وتراجع عن رأيه.
إن التعوّد على حفظ اللسان وتقويمه في إخراج الحروف من مخارجها الطبيعية مهم وضروري، ومن الخطأ أن نُحرّف كلمة ( ثبت ) إلى ( سبت ) وكلمة ( كثير) إلى ( كسير) وكلمة ( ثري) إلى (سري) فالفرق شاسع في المعنى بين هذه وتلك ولغتنا الجميلة لا تحتاج إلى هذا التبديل المشوّه الذي يُخرج كلماتها من معانيها الأصلية إلى معان لا نريدها ، بل أن بعض هذا التحريف لا يليق ذكره... ولقد سبقني في الإشارة إليه معالي الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ رحمه الله في خاطرةٍ من خواطره.
ولئن عتبتُ فإنما أعتب على جريدة عكاظ التي ترجمت اسمها بالأحرف اللاتينية ( okaz) وكان الأولى أن تكون (okad) فذلك أقرب مخرجاً من حرف< z >.
إن من واجب المدارس تعويد الطلبة على النطق السليم وتقويم مخارج الحروف عند نطق الطلبة ، وأن تحرص على تصحيح ذلك وتلقينهم وتعويدهم على التمسّك بلغتنا لأنها هويتنا.
وأحسب أنه من المهم والضروري أن يحرص الآباء والأمهات على نشْئهم فيقوّمون ألسنتهم وهم صغار قبل أن تستعصي عليهم وهم كبار ويصدق فينا قول الشاعر :
إن الغصون إذا عدّلتها اعتدلت    **     ولا تلين إذا كانت من الخشب  .
جريدة المدينة
السبت  8 -6-1428 هـ

الأربعاء، 13 يونيو 2007

وِداعِــيّـة


  خِــلْــتُ أنّـي يـوم ودّعْــتـُـكِ
  ودّعْــــتُ حَــــيــاتــــي
  وهَــــنــاءاتــي
  وأحْــلامَ شَــبــابــي .
  صــوّحَ الــزّهْــرُ وجَــفّــتْ
  فــي حُــقــولِــي
  نـَـبـْـتَــةُ الــشّــوقِ
  وأطْــيـافُ الــرِّغــابِ .
 غــارَ نَــبْــعٌ ريِّــقٌ كــانَ
 يـُعـاطِـيـنـي ويَـسْـقِـيـنـي
 بِـشَـهْـدٍ مـن رِضـابِ .
 وصُـروحُ الـحـبِّ يـا مَـحْـبـوبَـتـي
 أضْــحَــتْ خَــرابــآ
 ويَـبـابـآ فـي يَـبـابِ .
 خَــيـَّـم الــيَــأسُ عــلـى نَــفْــســي
 وذاب الـــنُّـــورُ
  في رَهْــجٍ "1" مَـلـيـئٍ بِـالـتُّـرابِ .
 لــم تَــعُــدْ دُنْــيــاكِ
 تـُغـْرِيـنـي بِـعَـيْـشٍ
 بـَعْـدَ أنْ أُتْـرِعْــتُ
 مـن مُـرٍّ وصَـابِ . "2"
 عِــفْــتُـهــا دُنْـيـا
 وأزْمَـعْـتُ رَحِـيـلآ
 وتـَـهَــيّــأتُ
 وهَـيّـأتُ رِكـابـي .

----------------------------------------------------------------------------
الهامش : -1- رهْج :الرهْجُ والرهَجُ أي الغبار.  لسان العرب مادة رهج .
           -2- صاب : الصاب شجر مر له عصارة بيضاء بالغة المرارة
                          واحدته صابة .  لسان العرب  مادة  صوب .

نشرت بجريدة الوطن في 28/ 5 / 1428

الأحد، 3 يونيو 2007

كُلٌ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ لَهُ (مقال)

أصلحك الله يا أبا نزار، كأنّي بكَ يوم شاهدتُك عن بُعدٍ تقتعدُ كرسيَّكَ عُصَيْر يوم قائظٍ بالثمانينيات من القرن الفارط، بقهوة كاظم بطريق المدينَة في جدّة (عروس البحر الأحمر)، عندما كان طريقُ المدينة مُتنزهاً للمُتنزهين، ومقصدًا للمُنتجعِين، ولعلّك تذكرُ يا أبا نزار أنَّ الملك فيصل -رحمه الله- كان يسلُك ذلك الطريقَ قُبيلَ مغربِ كلَّ يوم اذا كان في جدّة، ويجلس مع قليل من مُرافقيه في شمال جدّة في موقع من شارع فلسطين الآن ، وبُعيدَ صلاة المغرب يعود أدراجَه ، كان ذلك قبل أن تمتدّ مدينةُ جدّة بانبعاج شمالاً وشرقاً لم تحفّه العناية ، ولم يحفل به التَّنظيم. كنتَ أبا نزار تجلسُ -كدأبك- وحيداً إلَّا من أفكارك ، مُنفرداً إلَّا من نجواك، وأحسبُكَ -والله حسيبك- كنت في مناجاةٍ مع ادارة الأرقام وتدوير الأموال ، وهي رحلة عمرك وأثيرة قلبك . ثم رأيتُكَ بعدها مرّات ومرّات أنيقاً كعادتك، مُعتمراً غترتك ، رغم تعوّد النّاس في تلك المدينة الساحلية الرّطبة على التحرّر من غطاءِ الرأس، تقف غير بعيد منك سيارتُك الفورد البيضاء (تلقّ) على قول اخواننا في نجد ، لا أكتمك أبا نزار أنّ الرّغبة ساورتني آنذاك أكثر من مرّة في الهجوم على وحدتك ، والتطّفل على أفكارك ، وكأنّما عوّقتْني بادرةُ احترامٍ لخلوتك التي هربتَ بها من تجمُّع المنتفعِين وتزاحم اهل المصالح، اللذين لا شكّ يُغريهم علوّ منصبك،  وسموّ وظيفتك ، إذ كنتَ آنذاك في وظيفة مرموقة ومنصب رفيع بمؤسسة ماليّة ، والمالُ يُسعى له في كل زمان . 
عفاك الله أبا نزار تسألني الآن .. لَِما لَمْ ابتدرك بالسّلام ، وأقطع حبل افكارك بمبادرة الكلام ؟ والحديث بُغية ، وهو اول القرى ، غفر الله لك تسألني بعد ان شاب منك الفَوْدُ ، واكتهل العٓارضُ ، وتجلّل الرأسُ بالثلجٍ ، لقد خشيتُ يا صاحبي ان تحشرني في زمرة المنتفعِين وعصبة المتطلّعين . سبحان الله أبا نزار شرّقتَ وغرّبتَ في رحلاتك مع عَصَبِ الحياة ، كنتَ موظّفاً مرموقاً، وانتقلتَ لتَكون رئيس مجلس ادارة لبنكٍ مهم، ثم بنيتَ في الخليج صرحاً مالياً ، أبقيتَ به عملاً صالحاً، وذكرى عطرة وألقيتَ عصا ترحالك في مجلس الشورى، ثم لم تلبثْ أن عُدتَ إلى جدّة مدينتك التي عشقتَ ، ومنتجعك الذي احببتَ ، ولم يتوقف بك المسيرُ مادام (عند الصباح يَحْمَدُ القومُ السُّرى) ، فأنت الآن تجدُّ وتجتهدُ في بناءِ شركة لإدارة الأموال ، وما كان المالُ لك بُغْيةً ، ولكنّك تتطلّع لحسن إدارته، وتنميته عُدّةً للوطن، وسعادةً وبحبوحةً للمواطن. 
رعاك الله أبا نزار، لعلّك تذكرُ قُبيلَ سنوات عندما هاتفتُك ، وإذا أنت في نيويورك ، وقلتَ : إنك بعد دقائق على موعد عشاء مع كوفي عنان ، وأجبتُك : أبعدتَ الشُّقَّةَ يا صاحبي ، عجيب امرُك، فكثيرٌ من الناس يهرعون لرؤية (أنا نيكول) و(باريس هيلتون) وأضرابهما ، وأنت تخطف جنبات الأرض ، وتضرب أكباد الطائرات للقاء امين عام الأمم المتحدة(آنذاك) ، فكان ردُّك: ( كُلٌ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ) ، نعم، هذا نهجُك ، نهجُ محمد أحمد عبداللطيف، الرجل الذي عشق إدارة المال ، فكان مبرّزاً في عمله، ومميّزاً بإخلاصه ، ومتميّزاً بأخلاقه ، وعَلَماً مَالياً مرموقاً . وَفَّقَه الله وأعَانَهُ .
جريدة المدينة
الاثنين ١٨ / ٥ / ١٤٢٨ هـ