بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 29 أبريل 2000

عاشق الكبريتة (مقال)



كانت المنازل في مكة المكرمة قريبة، يوم كانت القلوب قريبة، وكانت شوارعها أزقة ضيّقة لا تشوّهها السيارات، ولا تعكّرها المركبات، وكان الحرم المكي هو البغية للمصلّي والطالب والمنتظم في حلقات العلم، كانت الحياة في مكة هيّنة ليّنة، القلوب قريبة، والمشاعر متقاربة، والناس في تواد وصلة وتراحم، قبل أن تشوّه الفلوس النفوس، كان صاحبنا يدرس في مدرسة تحضير البعثات، ومنزله في طلعة الفُلق ، وفي صباح كل يوم ينزل من منزله إلى برحة القرارة، ومن ثَمَّ إلى المسعى الذي كان آنذاك يغصُّ بالمحلات، والدكاكين، والسابلة، ومن ثم إلى القشاشية  حيث مدرسته، وأحسبه عصراً ينزل من نفس الطريق - إن لم يكن بعضه - ليذاكر دروسه في الحرم الشريف في حصوة باب زيادة، كان صاحبنا طويل القامة وسيم الطلعة ولم يكن بديناً مترهّلاً ولا نحيلاً مزرياً، بل كان قوامه جميلاً ملحوظاً، وكان الفتى يعرف ذلك عن نفسه، ويدرك ذلك في نفسه، وكانت حياته رتيبة تسير على منوالٍ واحد، لا يختلف طابعها، ولا يتغيّر نظامها في يوم عن الآخر، الصباح في المدرسة، والعصر والمغرب في الحرم المكي الشريف، ثم يؤوب إلى منزله بعيد المغرب، وهكذا دواليك.
وكانت منازل مكة تضع على الشبابيك ستارة " مدّة " تسمى الكبريتة، ومن خِصاصِها يُتاح لأهل المنزل من النساء مسارقة النظر إلى الطريق، لترقّب عودة الزوج، يوم كان يُترقّب عودته، وقبل أن تتغيّر الأدوار، كان صاحبنا الفتى في طريقه المعتاد الذي يمشيه كل يوم، وليس من جديد، حتى كان يوماً لاحظ أثناء سيره منزلاً في مواجهة الطريق تهتزُّ فيه الكبريتة وتخفِق، ومعنى ذلك أن وراء الكبريتة إمرأة تخالس النظر إلى الطريق، لم يلق آنئذ للموضوع بالاً، ولكنه لاحظ تكرار اهتزاز الكبريتة عند مروره وروحاته إلى المدرسة أو إلى الحرم الشريف، وظن صاحبنا الفتى - وحق له أن يظن فله من وسامته وميعةِ صباه ما يخفق له القلب وتهتز له الكبريتة - أنه المعنيُّ باختلاج مشاعر الكبريتة، كان الفتى في مَيْعة صباه، وفورة فتوته، يهوّم مع الخيال، ويبحر مع التخيّل، ويحلّق مع القصص الوجدانية، ويعيش في أجوائها وكأنه أحد شخوص الرواية إن لم يكن فارسها.
أصبحت الكبريتة لصاحبنا غايةً وهدفاً، يسترق إليها النظر ويخالسها الرؤية، وانعكس ذلك على هندامه، أصبحت ثيابه محل عنايته واهتمامه، يتأكّد من نصاعة الثوب، ونظافةغترته، وأكثر سيره عبر ذلك الطريق (( طريق الكبريتة ))، واختلق الذرائع، وخلق الحجج، ليزيد من مروره في ذلك الطريق، ومواجهة ذلك المنزل، وأصبح الفتى زبوناً لدكان قريب أمام المنزل، ليتاح له مسارقة النظر إلى تلك العروب  التي هزّتْ وجدانه، وحرّكتْ مشاعره ، وعاش صاحبنا مع الكبريتة، يخفق قلبه إذا اقترب من الموقع، وتتباطأ خطواته عند الاقتراب، ويُرعد في سمعه دفق مشاعره، وفي فصله ومنزله واثناء مذاكرته، كان يختلس الأوقات التي يخلو فيها مع الخيال، خيال الكبريتة التي حوته واحتوته، وعاش فيها وبها ومعها أجمل الساعات وأبدع اللحظات، يحضن مشاعره، ويحتضن تخيّلاته، حتى كان يوماً تحطم الخيال، وانكفأت اللهفة، وتراجعت أو بالأحرى اندحرت العاطفة، وانحسر الشوق والتشوّق... خرج صاحبنا قبيل العصر من منزله يبغي الحرم الشريف، وعندما اقترب من موقع الكبريتة، فز خفوقه، وأرعدت مشاعره، وتباطأت خطواته، وتركزت نظراته على الكبريتة، التي تجاوبت واهتزت وخفقت، وتزايدت خفقتها، واشتد اهتزازها، وأطل من خلفها رأس الأثيرة الحبيبة، وليته لم يظهر، فالأثيرة الحبيبة التي هزّتْ وجدانه شهراً، وتغلغلتْ في مشاعره دهراً، لم تكن إلا تيْساً أعـزّكم الله.


----------------------------
الهامش

<1> الفلق : حي من أحياء مكة المكرمة.
<2> القشاشية : حي من أحياء مكة الكرمة، واندثر حي القشاشية الآن ولم يبق له وجود بعد توسعة الحرم المكي الشريف.
<3> الكبريتة : ستارة من عيدان رهيفة، تضم إلى بعضها وتخاط من الأطراف والوسط وتوضع على النوافذ من الخارج، وهي معروفة في الحجاز، وكانت تستعمل في الستينيات والسبعينيات.
<4> العروب : المتحببة إلى زوجها والعاشقة له، قال سعيد بن جبير عن ابن عباس في تفسيره قوله تعالى ( عُرباً أترابا ) يعني متحببات إلى ازواجهن... (تفسيرابن كثير).

جريدة عكاظ العدد ١٢٢٩٩ اليوم السبت الموافق ٢٤ محرم ١٤٢١ هـ