بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 27 يونيو 1998

لقد جرّد الحجاج للحقِّ سيفه (مقال) / الحلقة الثالثة والأخيرة

كتب أمير المؤمنين الوليد بن عبدالملك، إلى الحجاج بن يوسف يأمره أن يكتب إليه سيرته، فكتب الحجاج : (إني أيقظت رأيي وأنمت هواي، فأدنيت السيد المطاع في قومه، ووليت الحرب الحازم في أمره، وقلدت الخراج الموفر لأمانته، وقسمت لكل خصم من نفسي قسماً، أعطيته حظاً من لطيف عنايتي ونظري، وصرفت سيفي إلى النطف(١) المسيء، والثواب إلى المحسن البريء، فخاف المريب صولة العقاب، وتمسك المحسن بحظه من الثواب)(٢) . ماذا تبغي الرعية من وال تنبه وانتبه ؟ لم تعبه غفلة ، ولم يصرفه هوى . والظلم لا يكون إلاّ من اتباع الهوى . والٍ يُعمل رأيه ، ويتدبر أمره ، ويحسن في اختيار عناصره التي تعمل معه ، فلا يولي الحرب إلاّ من كان حازما في أمره ، وهذا من حسن التدبير، وحصافة الرأي، ونجاح الإدارة.
قال صاحب العقد الفريد : غزا الروم المسلمين ، فاستعمل معاوية بن أبي سفيان على الصائفة(٣) سفيان بن عوف الغامدي ، وسأله ما أنت صانع بعهدي ؟(٤). قال : اتخذه إمامآ أمام الحزم . فإن خالفه خالفته، فقال : هذا الذي يكفكف من عجلة ، ولا يدفع في ظهره من خور ، ولا يضرب على الأمور ضرب الجمل الثفال(٥)، ومن حسن السياسة في الحرب، وإحكام التدبير لها أن لا يغتر القائد بالعدو ، وأن لا يستهين به ، فالحرب لا يصلح لها إلاّ الرجل المكيث.. نصح المهلب بن ابي صفرة ، عبدالرحمن بن الأشعث. وكان قد خرج لملاقاة الأزارقة في عشرة آلاف، فقال له: يا ابن أخي خندق على نفسك وعلى أصحابك ، فإني عالم بأمر الخوارج ، ولا تغتر . فأجابه: أنا أعلم بهم منك ، وهم أهون عليّ من ضرطة الجمل، فبيته قطري بن الفجاءة صاحب الأزارقة وقتل من أصحابه خمسمئة  وفـر َّ بن الأشعث لا يلوي على أحد، فقال فيه الشاعر :
تـركـت ولـدانـنـا تـدْمَـي نُـحـورهـمـو       **      وجـئْـتَ مُـنْـهَـزِمـآ يـاضَـرْطَـةَ الـجـمـلِ(٦).
 والحجاج وآلٍ  قدير نظر في أمور الخراج ، فقلدها الأمين غير المسرف ، وهذا من حسن السياسة العالية، فالمال عصب الحياة ، والخراج والفيءُ هما موارد الدولة ، ودخلها القومي ، ومن حسن الإختيار أن يكون القيّم على المال رجلآ أمينا ، يدبر ويوفـّر.
والحجاج والٍ  يُعطي النّصف، فرغم شدته وقسوته إلاّ أنه أمير عادلٌ  يقسم لكل خصم من نفسه قسماً، فيُعطي كل خصمٍ حظاً من العناية والنظر، حتى لا يتهيّب الخصم ولا يرتجّ عليه، ويستطيع أن يلحن بحجته، ويبسط ظلامته، ويقدم أدلته، وهذا غاية العدل، ومنهج العدالة، وهو أي الحجاج، أمير حازم جعل العقوبة رادعة لمن تسوِّل له نفسه الإساءة، واستطاع أن يروّض العراق، ويريض المشرق، رغم ما اشتهر به العراق والمشرق من ثورات وفتن، وإن الدولة، أي دولة، تطمح أن يكون ولاتها على هذا النهج من الحزم والعزم، وحسن السياسة، وإحكام التدبير، وانتهاج العدل، وعدم اتباع الهوى، والحجاج في هذا صاحب نهج ومنهج ورأي..
نستمع إليه يقول : (( إن بعض الشدة أبلغ في السياسة، وأحزم في الرأي، وكان كثيراً ما يتمثل بقول عمرو بن براقة الهمداني:
وكنتُ إذا قوم غزوني غزوتهم        **         فهل أنا في ذا يالهمدان ظالم
متى تجمع القلب الذكي وصارماً      **         وأنفاً حمياً  تجتنبك  المظالم
ولد الحجاج بن يوسف الثقفي في الطائف، في قرية تقع على جبل الهدة كما يقول الزركلي(٧)، وأمه الفارعة بنت همام بن عروة بن مسعود الثقفي. وكان والده يعلم الأطفال القرآن الكريم وأصول الدين، تقرباً إلى الله، دون أن يتخذ ذلك حرفة له(٨)، ونشأ الحجاج شاباً لبيباً فصيحاً بليغاً.. حافظآ للقرآن الكريم(٩)، وكان يقرأ القرآن كل ليلة(١٠)، ذكر صاحب كتاب رجالات الحجاز :(( تغدّى الحجاج يوما مع الوليد، فلما انفض غداؤهما، دعاه الوليد إلى شرب النبيذ، فقال : يا أمير المؤمنين الحلال ما أحللت، ولكني أنهَى أهل عملي، وأكره أن أخالف قول العبد الصالح : (( وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه))(١١)، فإن صحت الرواية، فها هو الحجاج ينصف من نفسه، ويصرح أمام أمير المؤمنين بأنه ينهَى أهل عمله عن شرب النبيذ، ويكره أن ينهاهم عن أمرٍ يفعله هو، مستشهداً بآية من كتاب الله الكريم، مدللاً أن باطنه مثل ظاهره، استقامة خلق، وعدالة موقف، وقدوة سلوك. وهو قد اتخذ من سد الذريعة منهجاً في مجتمع تنوّعت البنية السكانية فيه، من عرب وعجم وزنج، فيه عرب أقحاح وفيه موال، تنوعت مشاربهم وآراؤهم وتأويلاتهم، فالنبيذ قد يكون في بدايته حلالاً، ولكن إذا تغيّر طعمه فالراجح تحريمه. وهو الأولى سداً للذريعة، ومنعاً للتوسع، وتركاً لما يريب، واستشهاده بالآية القرآنية دليل على عنايته بالقرآن، وتلاوته في كثير من أوقاته، وهو في بعض مواقفه توقفه الآية القرأنية عما ينويه من عقوبة على جان، روي أنه أُتي للحجاج بأسرى، فأمر بقتلهم، فقال رجل منهم : لا جزاك الله يا حجاج عن السنة خيراً، فإن الله تعالى يقول {فاذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا اثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منًّا بعد وإما فداء}
فهذا قول الله في كتابه، وقد قال الشاعر:
وما نقتل الأسرى ولكن نفكهم       **       إذا أثقل الأعناق حملُ القلائد
فقال الحجاج : ويحكم أعجزتم أن تخبروني بما أخبرني هذا المنافق، وخلى سبيله، وأمسك عمن بقي(١٢)، وقصة الحجاج مع ابن سلكة تؤكّد رضوخه للقرآن الكريم، رُوي أن ابن سلكة دخل على الحجاج فقال : أصلح الله الأمير عصَى عاص ٍمن عرض العشيرة، فحُلِّق على إسمي(١٣)، وهُدم منزلي، وحُرمت ُعطائي، فقال الحجاج: أما سمعت قول الشاعر:
جانيك من يجني عليك وقد         **       تُعدي الصّحاح مبارك الجرب
فقال: أصلح الله الأمير إني سمعت الله عز وجل يقول غير هذا، قال: وماذاك؟
قال: يقول الله تعالى { يا أيها العزيز إن له أبا شيخاً كبيراً فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين . قال معاذ الله أن نأخذ إلاّ من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون }
فنادى الحجاج يزيد بن أبي مسلم وقال له : افكك لهذا عن إسمه. واصكك له بعطائه ،  وابن له منزله، ومر منادياً ينادي : صدق الله وكذب الشاعر(١٤)، فلم تأخذ الحجاج العزة بالإثم ولم يتكبّر ولم يتجبّر، بل صرفته الآية الكريمة عن استمرار العقوبة، فأصدر أمره الأميري، منتقضاً الأمر الأول ، وأذعن للحق، واعترف بخطئه ضمناً أمام الملأ، مدللاً على رجوعه أمام آيات الله، وخضوعه لأحكام الله، إن ما نقرأه من نبذ  أتت  في خضم تخرّصات قيلت عن الحجاج، تدعونا نُرجع البصر كرتين تمعّناً وتدقيق نظر.
ونعجب كيف انفلتت هذه الومضات أمام الإظلام الذي تناول  سيرته، وشوّه صورته، ووصفه بما هو أقذع وأفظع، أتعجبون إن قلت أن أستاذاً في الجامعة اللبنانية، ألّـف كتيباً عن الحجاج وقال عنه إنه  ابن زنى!! وها أنا أنقل ما ورد حرفياً: (( وإذا كان الخلفاء الأمويون قد تمكنوا أخيراً من حكم المسلمين، ولكنهم لم يتمكنوا من حكم قلوبهم وما ذلك إلاّ أنهم أبقوا على سياسة الترغيب والترهيب دستورا لهم، كما أثاروا الفتن والخلافات والعصبيات بين الناس، وذلك تحت شعار فرق تسد وقد اختاروا لحكم المسلمين ولاةً أقل ما يقال فيهم انهم أولاد زنى، أمثال زياد بن ابيه والحجاج بن يوسف الثقفي))(١٥) ، أقول ليس هذا والله قول محقّق، ولا تدقيق مؤلف( بكسر اللام تحت الشدة) وعندما قرأت هذا الرأي تمثلت بقول الشاعر نيابة عن الحجاج:
لما فضلتُ رموا بكل عظيمة         **       والفضل موضع أسهم البهتان
يستطيع الكاتب - أي كاتب - أن يكتب عن شدة الحجاج ، وعن حزمه وعزمه، عن إخلاصه الفائق لحكم بني أمية، عن شدته مع من ينال السلطان بقول أو فعل ، فهو يرى أن السلطان ظل الله في أرضه، من نصحه اهتدى، ومن غشه اعتدى، أقول يستيطع الكاتب أن يقول في ذلك ويتوسع، ولكن أن نصم الحجاج بهذه الكلمة الظالمة فتلك لعمري سقطة شنيعة، وفرية فظيعة، وتجنٍّ ما بعده تجن، ليت هذا (العطوي) قرأ ما أورده صاحب (العقد الفريد) قال : لما أتى بالأسرى الذين خرجوا مع ابن الأشعث للحجاج، أمر بقتلهم فقال رجل : أصلح الله الأمير ، إن لي حرمه! قال : وما هي ؟ قال : ذُكرتَ في عسكر ابن الأشعث ، فشُتمت َفي أبويك ، فعرضت دونهما، فقلت : لا والله ما في نسبه مطعن ، فقولوا فيه ودعوا نسبه، فعفا عنه الحجاج وعن شاهده(١٦).
أي والله ليس في نسب الحجاج مطعن لطاعن، أو فسحة لمتقوّل، ولكنها الأحقاد أبت إلا أن تشوّه سيرة عظيم من عظمائنا، ووال ٍمن صفوة ولاة المسلمين قوة وشكيمة وحزماً وعزماً، أمضى حياته  في الذبِّ عن وحدة الدولة الإسلامية ، ولكننا مع الأسف مغرمون بتشويه تاريخنا ، والإشادة بتاريخ أعدائنا، والاحتفال بأساطير الغرب، وما أحرانا أن نقول ونردد : ( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم )
الهامش:
(١) النَّطِف : بالشدة على النون تعلوها فتحه، وكسر حرف الطاء : المتهم بريبة، أو الرجل المريب ( تاج العروس) مادة نطف.
(٢) ابن عبدربه العقد الفريد جزء ١ ، ص ٢٢، ٢٣ .
(٣) الصائفة : الجيش الذي يخرج لملاقاة العدو في الصيف.
(٤) بعهدي : أي بما عهدت به إليك من امر، وكتبت به إليك أن تفعل كذا وكذا .
(٥) الجمل الثفال : أي البطيء.
(٦) ابن عبد ربه، العقد الفريد المجلد الأول ص ١٤٢.
(٧) خيرالدين الزركلي : ما رأيت وما سمعت ص ٤٠ .
(٨) هزاع بن عيدالشمري، الحجاج بن يوسف الثقفي وجه حضاري في تاريخ الإسلام ،ص ٤٢.
(٩) المصدر السابق نفس الصفحة .
(١٠) د . شوقي أبوخليل. فتح سمرقند ص ٢٣.
(١١) السيد إبراهيم هاشم فلالي. رجالات الحجاز الجزء الأول ص ١٣٣.
(١٢) ابن عبدربه: المجلد الثاني ص ١٧٤.
(١٣) حلق على اسمي: أي وضع الاسم داخل حلقة من المداد، ليحرم من العطاء.
(١٤) ابن عبدربه : المجلد الأول ص ٣٠ - ٣١.
(١٥) دكتور علي نجيب عطوي. الحجاج بن يوسف الثقفي حاكماً فذاً وخطيباً لامعاً، ص ١٤.
(١٦) ابن عبدربه: العقد الفريد ، المجلد الثاني ، ص ١٧١ ، ١٧٢ .

جريدة عكاظ
عدد ١١٦٣٢
السبت ٣ / ٣ / ١٤١٩ هـ