بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 4 أغسطس 1997

وأحلى الحديث ما كان لحناً(مقال)


تجنّى بعض المؤرخين على الحجاج بن يوسف الثقفي، فقالوا عنه :قتول غشوم قتّال عسوف، والجاحظ يعده من الذين لا يتناهون عن منكر فعلوه <١> ، والسيوطي يقول :  (( لا رحمه الله ولا عفا عنه )) 2
، والبلوي يذكر أن العلماء اتفقوا على تفسيقه واختلفوا في تكفيره<٣>، وابن خلّكان يقول : ((كان له في القتل وسفك الدماء والعقوبات غرائب لم يسمع بمثلها))<٤>، حتى الشيخ القرضاوي - عفا الله عنه - اعتبره طاغية <٥>...
ولست هنا في مجال الإنتصاف له ...
لكني أروي ما أورده ابن عساكر أن رجلاً تناول الحجاج وعابه فقال له الحكم بن هشام الثقفي : (( ابزق علي القمر)) .
كان الحجاج صاحب طاعة في منشطه ومكرهه، لا يُسوّغ لنفسه أن يناقش الخليفة أحسن أم أساء، نصح الحسن البصري فقال له : ( ياحسن إياك والسلطان أن تذكره إلا بخير فإنه ظل الله في أرضه، من نصحه اهتدى، ومن غشّه اعتدى ) <٦>.
وحسب الحجاج أنه كان واحداً من بُناة الدولة الأموية، حافظ على وحدتها السياسية، وحارب الخارجين عليها، وأسهم في صنع تاريخها وأمجادها ، والحجاج قبل هذا وذاك قارىء قرآن يتبصّره ويتدبّره ويتمثّل به ويثيب عليه، دعاه حرصه على النّص القرآني إلى إثبات الشّكل والإعجام على حروفه، وبهذا وضع لنا نحن ضوابط الكتابة العربية، وهو الذي عرّب ديوان الخراج في ولايته، وتبعته جميع الأمصار الإسلامية...
وكان غيوراً على اللغة العربية، يعيب من يلحن عنده، حتى زوجته هند بنت أسماء بن خارجة الفرازي، عاب عليها لحنها عندما لحنت. فاحتجّت بقول أخيها مالك بن أسماء :
منطقٍ صائب وتلحن أحياناً   **   وأحـلَى الحديثِ ما كان لحنا .
فقال : لها إن أخاك لم يرد ما تقولين ولكنه عنَى أنها امرأة فطنة لا تُصرّح بمرادها ولكنها تلحن به تستّراً وتوريةً وحياءً - كما قال عز وجل : { ولتعرفنّهم في لحن القول }
ولم يُرد عز وجل الخطأ في القول : دلّل الحجاج على فهمه للقرآن ومعرفته للشعر وضروب الكلام...
وكم من مرّة وقف عند آية قرآنية ذكّره بها أسير جيء به عنده لاستنطاقه وقتله، فيعفوَ عنه وعمّن معه، بل أنه عفا عن أسلم بن عبيد البكري، المطلوب قتله بأمر عبدالملك بن مروان، فلما لجأ، إليه قالت ابنته بضعة أبيات منها :
أحجاج كم تقتل به إن قتلهْ   **    ثماناً وعشراً واثنتين وأربعا
أحجاج إما أن تجود بنعمة   **    علينا وإما أن تقتّلنا معا
فبكى الحجاج وقال والله لا أعْنتُ عليكم ولا زدتكنّ ضَعفا، فعفا عنه وأجزل له العطية، وكتب ذلك إلى عبدالملك...
ألا يجمل بنا أن نقول { تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عمّا كانوا يعملون } <٧>
-------------------------------------------
الهامش:
<١> الجاحظ، الرسائل الكلامية، ص ٢٤٤ ، دار مكتبة الهلال.
<٢>السيوطي، تاريخ الخلفاء، ص ٢٢٠.
<٣>البلوي، الف باء، ج ٢، ص ٤٧٥.
<٤>ابن خلّكان، وفيات الأعيان، ج ١، ص ٣٤٣.
<٥> د . يوسف القرضاوي، مسرحية عالم وطاغية، مؤسسة الرسالة، ١٤٠٢.
<٦>ابن عساكر، تهذيب التاريخ دمشق، ج ٤، ص ٧٩.
<٧ >سورة البقرة، آية ١٣٤، وآية ١٤١.
- جدة -
المجلة العربية - ربيع الآخر ١٤١٨هـ