بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 19 يوليو 1997

يرمي الحبالة"1"عن بُعْدٍ وعن كثب (مقال)

خلق الله الانسان، وخلق فيه غرائزهِ، واودع فيه آماله وأحلامه وتطلّعاته وجعل له عقلا يهتدي به ، يتخير ويختار ، يتحسس طريقه، ويحكم عقله ، ويتحكم فيه غرائزه ، وهو ان شاء جعلها في وجاء ، (٢) وان شاء جعلته في عناء. وانسان في مسيرته بين سابق ومسبوق ، ان شاء رفع نفسه باخلاقه وسلوكه ، بتساميه ونكران ذاته ، وان شاء نزل بها بطمعه واطماعه ، وانحداره وانكبابه، يدور مع المنفعة أنى دارت به، ويسير مع مصلحته الذاتية أنى سارت به ، حتى لو هوت به وتهاوت ، قاتل الله الفلوس كم شوهت من نفوس. ولقد عجبت -ولا عجب- من شخص بريش (٣) سهامه ، ويشحذ شفرته ، ويطيل نصله ، يرقب ويترقب ، يتخذ من المنافع مركبا ، ومن مصلحته الذاتية دافعا ، يرسم عن بعد ، ويخطط من بعيد ويحسب - جهلا. انه عمّى(٤) دربه، وستر غرضه ، متكئا على شكل وهيئة ، ولسان ذرب (٥) شنشنة تعرف من اخزم (٦) ، وابان -بزعمه- عن اخلاص ، متقمصا صفة المحبة والولاء ،، متدرعا بصفة الوفاء وهو منها في لفاء(٧) متخذا الحباء (٨) للاحباء من الاقرباء. وفاته ان من صدقت لهجته ، وضحت حجته ، وأن من تسامى سما (٩) ومن ترفع ارتفع ، وأن الحياة ليست نُجعة (١٠) يرتعيها ، ومتعة يبتغيها ، وان التقية تبين ولو بعد حين، ألا قاتل الله الطمع كم أخضع وكم أخنع... وآخر له ألف وجه ووجه ، يلقاك بوجه طلق ، ومحيا باسم ، يخدعك بمعسول الكلام ، وموالاة الصلة والاتصال ، ما دام لك موقع ولك مكان ، فان تغيرت الاحوال ولا بد ان تتغير تغير معاها، ودوام الحال من المحال، وصدق الشاعر : 
اقلب طرفي لا أرى غير صاحبٍ
يميل من النعماء حيث تميل 
وصرت ارى ان المتارك محسن
وأن خليلا لا يضر وصول 
ومن المؤلم ان ترى نماذج مثل هذه، سواء على المستوى الوطني، او المستوى الشخصي ، فالوطن في حاجة لاخلاص وولاء، اخلاص لا تشوبه منفعة وولاء لا يشوبه نفاق، وصدق في القول والعمل ، والاخوة تحتاج الى ايخاء بمعناه ومبناه وليس ذلك بكثير على أهل المروءة والشيم . اللهم انا ندعوك ان تُخلص يقيننا ، وتصفي طويتنا ، وتسوى بين الباطن منا والظاهر في الطاعة التزاما بسنة الجماعة. 
 
الهامش:
 
(١)الحبالة: المصائد اي ما يصطاد به واحدتها حبالة بالكسر وفي الحديث ، النساء حبائل الشيطان او كما قال صلى الله عليه وسلم. 
(٢) وجاء: من الوجأ وهو رض انثيا الفحل لتذهب شهوة الجماع منه وفي الحديث : يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فانه له وجاء. او كما قال صلى الله عليه وسلم.
(٣) يريش سهامه: اي يلزق عليها ريشا قال لبيد يصف السهم : 
مرُط القذاذ فليس فيه مصنعٌ 
لا الريش ينفعه ولا التعقيب.
(٤) عمّى دربه : ستره ، وجعله مجهولا، وعماية الجاهلية يعني جهالتها ، والمعامى : الارضون المجهولة ، ويقال لقيته في عماية الصبح اي قبل ان يسفر النهار بضوئه. 
(٥) لسان ذرب: حديد الطرف، فصيح اللسان .
(٦) شنشنة تعرف من اخزم مثل عربى سائر : اصله شطرة من بيت شعري وهو : 
انّ بني ضرجوني بالدم
شنشنة اعرفها من اخزم 
ويضرب هذا المثل في قرب الشبه. 
(٧) لفاء: اللفاء هو الشيء القليل .
(٨) الحباء : بكسر الحاء اي الصلة ، والعطاء وقيل العطاء بدون منة 
يقول الشاعر الفرزدق :
خالى الذي اغتصب الملوك نفوسهم
واليه كان حباء جفنة ينقل. 
(٩) سما: ارتفع وعلا ، وتسامى اي ترفع. 
(١٠) النُجعة : موقع الكلأ والعشب ، او طلب المرعى في مكانه، ويقال في الامثال من اجدب انتجع اي طلب النُجعة . يقال ان صعصعة بنت صوحان تغدى  عند معاوية رضي الل عنه فتناول من بين يدى معاوية شيئا من الطعام ، فقال يا ابن صوحان ، انتجعت من بُعد ، فاجابه من اجدب انتجع .
 
 
نشرت في جريدة عكاظ السبت ١٥ / ٣ / ١٤١٨ هـ صفحة ٢٢.