بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 2 يونيو 1997

خليليَّ مُرّا بي على امّ جُندبٍ (مقال )


اتعرفون من هي ام جندب؟ حدثوا ان امرأ القيس وعلقمة الفحل ، تنازعا الشعر فقال علقمة لصاحبه، قد حكمت بيني وبينك امرأتك ((ام جندب)) وبدأت المساجلة الشعرية بينهما، قال امرؤ القيس:

خليلي مرا بي على ام جندب
لتقضي حاجات القلب المعذب

وهكذا بدأت المسابقة، وانتهت بحكمها لعلقمة بالغلبة، هذان الشاعران من فحول الشعراء، يرتضيان المرأة حكومة، وما كان الا لوثقهما في حسن تذوقها، وحنكة رأيها ، وبعد نظرها في مجال النقد الأدبي.. الفتاة العربية نُشَّئت بين ام تحنو واب يرعى ويحدب، فلا معدى ان تبتغي عشيرا كريما، فهي قد درجت في كنف يرعاها، وام تؤدبها وتهذبها وتعلمها وتعدها لبيت تسوسه ،واسرة تنشئها، وزوج تسكن إليه، ومن الجور أن يضيع ذلك عند مضيع لا يرقب فيها إلاً ولا ذمة، واذكر فيما اذكر أن صعصعة بن معاوية جاء يخطب ابنة عامر الضراب العدواني فقال: يا صعصعة إنك اتيتني تبتغي مني كبدي، فارحم قبلك او رددتك، بهذا القول صارحه، فابنته عمرة هي كبده التي تمشي على الأرض، أيتركها لمفرط يستحل منها ما يستحل فان غلبته حماقته صفع وجهها ولعن اباها.
والفتاة عندما تبتغي عشيراً كريماً، فانما لمعقد الرأي من حياتها، فالمرأة التي تُسلب نفسها ورأيها، لا تنكشف عن ام جديرة بسياسة اسرة، وتنشئة اطفال، من اجل ذلك أبت الخنساء بنت عمرو بن الشريد ان تساق إلى دريد بن الصمة، وهو سيد قومه وشاعرهم، لا لشيء إلا لتفاوت السن، فدريد قد دلف إلى الستين وهي في مقتبل العمر، وقالت ما كنت لأدع بني عمي وهم مثل عوالي الرماح واتزوج شيخاً فقال دريد:

وقاك الله يا ابنة آل عمرو
من الفتيان أشباهي ونفسي
وقالت إنني شيخ كبير
      وما نبأتها اني ابن أمس
فلا تلدي ولا ينكحك مثلي
      إذا ما ليلة طرقت بنحس
تريد شَرنْبثَ القدمين شثناً
      يباشر بالعشيّة كل كرس

فأجابته الخنساء:

معاذ الله ينكحني حَبَرْكي
يقال ابوه من جُشم بن بكر
ولو اصبحت في جُشم هديّاً
اذا اصبحت في دنس وفقر

هذه هي المرأة العربية، زهرة طاب غرسها، وصلح غراسها، نُشِّئَتْ على الفضيلة، وارتضعت الكرامة، حبت في عز ورفعة رأس، يصونها حياؤها، وتقيها عفتها، تبعد عن مزالق الرذيلة، وتبعد عن مهاوي السقوط، وترتفع بأدبها وتتسامى بأخلاقها... وهي في المواقف العصيبة تبرز بعقلها وعقليتها.. يحدثنا من يحدث قبيلة كنانة توقعت غارة من اعدائها، فخرجت احدى كرائم الحي، وجلست مع اترابها، وافاضوا في الحديث عن الغارة المتوقعة، قالت لاينبغي ان ننتظر غارة تفجؤنا وتفجئنا، فارسلت وليدة لها ، وقالت ادع لي فلاناً، فذهبت الوليدةواستدعته، فلما جاء اعلمته بما تتوقع، وسألته كيف صنيعك ان زوجتك نفسي؟ قال : سأفعل وافعل، قم لست وذاك، ثم دعت رجلاً آخر فكان كصاحبه فصرفته،حتى دعت ربيعة بن مكدم، فقال لها : إن من أعجز العجز أن يصف الرجل نفسه، ولكني ان لقيت اعذرت، وحسب المرء غناء ان يعذر، قالت : قد زوجتك نفسي، فاحضر غدا مجلس الحي ليعلموا بذلك، فلما كان الغد تزوجها ، ويوم الغارة دافع الغير ودفع المعتدين.. هذه امرأة تملك نفسها وتملك رأيها، تُحسن الاختيار ، ولا تسيء في التخيّر ، وتمهر ذلك بالدفاع عن قبيلتها ، بمثل هذه وامثالها نشيد ، وبمثلها نتغنى.
 ان من ضلال الرأي ان نأخذ المرأة الغربية مثالاً، وان نتخذها نبراساً، او نقتبسها قبساً، تلك امرأة دخلت كل معترك، قارعت الرجال في كل ميدان، وزاحمتهم في كل محفل، على أني لا اغمطها حقها فلها من رجاحة العقل مالا اسلبه منها، وان انكرت عليها السهولة فيما يُمنع، ودون ذلك تُقرع انوف، وتسيح دماء،،
دعونا نمتح من فضائل نسائنا، من عقلها الراجح، وفكرها النير، ورأيها الرشيد، ونذكر بالإجلال خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وموقفها يوم جاء النذير للنبي صلى الله عليه وسلم ريع محمد عليه افضل الصلاة والتسليم، وهو صفوة الخلق وسيد الرسل، واشجع من مشت به قدمان، فلم يكن الا خديجة رضي الله عنها، تسكنه وتهدىء من روعه وتقول. : كلا والله لا يخزيك الله ابدا، إنك تحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتعين على نوائب الدهر ، فسكن ما به صلى الله عليه وسلم من روع وهدأت نفسه هذه هي المرأة، الحديث عنها يملأ القلوب روعة، ويملأ النفوس إكبارا، ويزيد من شعورنا نحو المرأة التي تملك الرأي فتفضي في سماحته بصائب القول ، وصالح التدبير، يُقال ان الحارث بن عوف المري، قال يوما في ناديه معتزا مفتخرا، أترونني اخطب الى احد فيردني ؟ قيل له نعم . قال: من ذاك ؟ قالوا : اوس بن حارثة الطائي، فخرج الحارث يبغي أوسا، ًوخرج معه خارجة بن سنان ، فلما وصلا اليه، رحب بهما أوس ، فقال له الحارث : جئتك يا أوس خاطبا، فأجابه: لست هناك، فلوى الحارث عنان دابته وانصرف غاضباً، ودخل أوس على زوجته مغضبا، قالت: من الفارس الذي وقف عليك فلم تطل معه الحديث؟ قال: ذاك سيد العرب الحارث بن عوف، قالت : فما لك لم تستنزله؟ قال: انه استحمق، قالت : فكيف ؟ قال جاءني خاطباً، قالت : الا تبتغي لبناتك ازواجا أكفاء؟ قال : بلى ، قالت : فإن لم تزوج سيد العرب فمن تزوج؟ تدارك ما كان منك والحق بالرجل ورده، فلحق به وقال: ارجع يا حارث ولك عندي ما تحب، ورجع الحارث وزوجه أوس ابنته بهية، فلما اراد أن يفضي اليها، قالت مَهْ!! أفي ديار قومي هذه والله سُبّة،فلما حملها ، وبلغ بها ديار قومه، وكانت الحرب بين عبس وذبيان قد استعرت ، واشتد أزيمها، وعصفت بها هوجاء الرياح، وجاءها الحارث بعد أن اصلح من نفسه ، ليجلس اليها ، قالت : والله لقد ذكرت لي ان لك رأيا وانك مسود في قومك ، ولا اراك إلا تبتغي شهوة، قال : وكيف ؟ قالت : اتفرغ للنساء والقوم في قراع ، والناس يصطلون بنار حرب ضروس ، اخرج الى قومك فاصلح بينهم ، وتحمل الديات، فخرج الحارث، واتى صاحبه خارجة وقص عليه حديث امرأته قال خارجة، والله إني لأرى عقلا، فخرج الرجلان الى قومهما وتحملا ديات القتلى ، واحتملا حمائل القوم.
هذا ما بلغته المرأة من عقل راجح وفكر مستنير، وحكمة سديدة، ورأي رشيد.. والمرأة في الجاهلية كانت تُسبى ، وتعيش مع من سباها دهرا، وتنجب له اولادا، إلا انها ترضى بهوان نفسها في قبيلة من سباها ، قيل ان عروة بن الورد سبى امرأة ، وعاشت معه، وانجبت له الابناء، وما زالت به حتى سار بها الى يثرب، وقالت لاهلها اخدعوه عني ، فجلسوا اليه يشربون معه، فلما تمكن منه الشراب، قالوا : انا لا نرضى ان تكون بنيتنا سبية، فأعدها الينا ونزوجك منها، قال سافعل فلما كان من غد، اتوه يستنجزونه وعده ، قال لم اعد، قالوا وعدت واقاموا البينة، قال فان اختارتكم فذلك لها، وان اختارتني فما لكم عليها من سبيل، قالوا رضينا، فجاءوا اليها ، فاختارت اهلها، ثم اقبلت على عروة وقالت : ياعروة والله ما اعلم امرأة من العرب القت سترها على بعل خير منك، واغض طرفا، واقل فحشا، واجود يدا، واحمى لحقيقة، وما مر على يوم منذ كنت عندك الا والموت فيه احب الي من الحياة بين قومك، لاني لم اشأ ان اسمع امرأة من قومك تقول قالت امة عروة كذا ، قالت امة عروة كذا، والله لا انظر في وجه غطفانية ابدا، فارجع راشدا الى ولدك ، واحسن اليهم، فانصرف عنها وهو يقول :

ارقت وصبحتي بمضيق عمق
لبرق من تهامة مستطير
سقى سلمى وأين ديار سلمى
اذا كانت مجاورة السدير

ولعلي اذكركم ان عبدالملك بن مروان الخليفة الاموي ، تمنى ان يكون عروة بن الورد من ولده، وذلك لما هو مأثور عنه من فضائل ومكرومات، هي حصيلة العربي ورأس ماله، ومع هذا فان سلمى زوجته كرهت مصاحبته، لا لسوء فيه لم تحمد عشرته ، ولكن انفة ان يقال لها امة ، وهي عربية صريحة النسب ، فكرامتها تأبى عليها ان تكون سبية وتدعى أمة لفلان، كائن من كان فلان هذا ، بامثال هذه المرأة يعتز الانسان ويعتزي، وعجيب ان نسمع ان العربي لا يحترم المرأة ولا يقدرها ، ففيما رأينا آنفا شاهد وشواهد تدحض هذه المقولة وتنفيها ، وحتى في عصرنا الحاضر ، أرأيت الرجل اذا حزبه امر ، او اشتدت به ضائقة اعتزى وقال: انا اخو فلانه او انا ابو فلانه، وما كان هذا الا لانه يحترم المرأة ويقدرها. المرأة التي تستحق ان تصان ولا تهان ، وان تكون فاعلة ، لا قعيدة بيت اكبر همها نظافة الدار وغسل الازار.

جريدة عكاظ السبت ١٠/٦/١٤١٨هجرية