هذه القصيدة للشاعر (( الحطيئة)) لعلها من أجمل قصائده .. بل من أجمل قصائد الشعر العربي التي تبلور أخلاقيات الرجل العربي ، وهي تتحدث عن قصة إعرابي فقيرمعدم، (( طاوى ثلاثٍ، عاصبِ البطن، مرملٍ)) يعيش في بادية غير مطروقة، أورثته وحْشة، وخلقت في نفسه جفْوة، وجعلته يأنس بالبؤس ويعدّه -لشراسته- من النعم.
وللأعرابي زوجة عجوز وثلاثة أبناء كأنهم أشباح، حُفاة عُراة، لم يطْعموا خبز الملّة، ولم يتذوقوا طعم القمح منذ خلقوا.
وطاوى ثلاثٍ عاصبِ البطنِ مرملٍ   **   ببيداء لم يعرف بها ساكنّ رسما
أخي جفْوة فيه من الإنس وحشة        **   يرى البؤس فيها من شراسته نُعْمَى
وأفرد في شعب عجوزاً وراءها        **  ثلاثة أشباحِ تخالهُم بَهْما
حُفاةٌ عُراةٌ ما اغتذوا خبز مَلّة           **  ولا عَرَفوا للبُرَ مذ خُلقوا طَعْما
عمد الشاعر ((الحطيئة)) إلى هذه الصّور الُمدْقعة، ليجسّد الفقر المريع الذي يعيشه هذا الإعرابي وعائلته ، ويخرج لنا مسرحية أخاذة، يستهلّها بوصف حالة هذه العائلة الفقيرة، المكوّنة من خمسة أشخاص ،المتفرّدة في بادية مُنْحازة غير مطروقة ، هذه الصّور لوضع العائلة والظّروف المحيطة من فقرٍ وجوعٍ واقتارٍ وإعدامٍ، عمد الشاعر إلى شحن ألفاظها شحناً شديداً، وتخيّر ألفاظها المؤثّرة ، ليكثف الظلال، ويُعْطي المزيد من الألوان، ويسلّط عليها سيلاً من المؤثّرات ((طاوى ثلاثٍ، عاصبِ البطنِ مرمل، ببيداء لم يُعْرف بها ساكن رسما، أخي جفوة، فيه من الإنس وحشة، يرى البؤس فيها نُعْمَى، أشباحٌ تخالهم بَهْما، حُفاة عُراة ، لم يطعموا خبز الملة، وماعرفوا للبر مذ خُلقوا طعماً)) هذه الألفاظ القويّة، تُجسّد حالة الفقر والوَحْشة والجَفْوة والبؤس، وتدفع المتلقِّي إلى تصوّر الإمْلاق الذي تعيشة هذه الأسرة، وتجعله يتهيّأ للإنزعاج من الضّيف الذي سيطرقهم ليلاً.. وبعد هذه المقدّمة والتهيئة، ينقلنا الشاعر إلى مشهد درامي ليزيد من جرعة التأثير النفسي، فبالرغم من هذه الظروف القاسية غير المواتية، التي جعلت الأعرابي يطوي ثلاثة أيام دون طعام، ويعصب بطنه من الجوع، يبرز وسط الظلام شبحٌ، يرتاع ُله الأعرابي، ويستبين الشبحُ عن ضيفٍ يطلبُ القِـرَى.. أي قِـرى يطلب!! وأي ضيافة ينشد؟؟ طارق الليل أورث هماً.. وأوجد غماً، من أين يضيفه؟ وكيف يُطعمه؟ أي مصيبة حلّت ، وأي نازلة نزلت ؟، فيلجأ الأعرابي إلى ربه متوسّلاً مبتهلاً ألاَّ يحرم ضيفه ( تالليلة اللحما ).
رأى شبحاً وسط الظلام فراعه   **   فلما بدا ضيفاً تشمّر واهتماً
فقال هيا ربّاه ضيفٌ ولا قِـرَى   **   بحقِّـك لا تحرمه تالليلة اللحما
ويزيد الشاعر من حبكة الدراما، بموقف التّضحية من الإبن الذي تطوّع مقترحاً على أبيه أن يذبحه ويُيسِّر القِـرَى لضيفه، ولا يعتذرْ بالعُدْم والفقر والفاقة، فلعلّ الضّيف يحسب أن لهم مالاً فيوسعهم ذماً.
وقال ابنه لما رآه بحيرةٍ             **     أيا أبت اذبحني ويسّر له طُعْما
ولا تعتذر بالعُدْمِ علّ الذي طرا    **     يظنُّ لنا مالاً فيوسعنا ذما
وتراود الأعرابي فكرة ذبح ابنه،  ويتروّى قليلاً إزاءها، ثم يحجم، وتعاوده الفكرة، ويطردها، ويعيش الأعرابي في هذا الجو النفسي البائس لبرهة يهمُّ ويحجم، ويتقدّم ويتردّد،
فروَّى قليلاً ثم أحجم بُرهة      **     وإن هو لم يذبح فتاه فقد همّا
وبين عزمه وتردّده، وبين إقدامه وإحجامه، يأتي الفرج بقطيعٍ من الحُمُرِ الوحشية، منتظمة خلف مِسْحَلها ، تسير نحو الماء لتروّي عطشها، فانساب نحوها، وأمهلها حتى ارتوتْ ثم أرسل من قوسه سهماً فأصاب إحداها وتأتي مراكبُ الفرح، وتأتي البُـشرَى، ويعُـمُّ السرور الأرجاء. عندما رأوا  أباهم يجر صيده . وقضوا حق الضيف كرماً وجودآ..
وبات والدهم من البشر أباً للضيف والأم من فرحتها أماً.
فيا بِـشْره إذ جرها نحو قومه        **     ويا بِـشْرهم لمّا رأوا كَـلْـمَـهـا يَـدْمِى
فباتوا كراماً قد قضوا حقّ ضيْفهم  **     فلم يغرموا غُرماً وقد غنموا غُنماً
وبات أبوهم من بشاشته أباً          **     لضيفهم والأم من بِـشْرها أما
يقدّم الشاعر لنا عالماً مُدْقِعاً من الفقر والفاقة والتوحّش والتفرّد، مستخدماً كما أسلفت تراكيب وأدوات مختاره، طرقات متصاعدة ليشدّ الذهن. واختار الشاعر من البحور البحر الطويل. ((وهو بحر جاد، واضح النغم، تؤدَّى عليه المواضيع الجاده، وأعاريضه طويله تتناسب مع السرد القصصي)).
والقافية حرف الميم. وهو حرف شفوي، حرص الشاعر على تحريك القافية ومدّها ليطلقها ويجعل لها جَـرْساً. وكان موفَّـقـاً بين الصورة والعرض المسرحي، وكانت الحبكة مُؤثّـرة، وموضوع القصيدة موضوع تراثي، فالكرم عادةٌ من عادات العرب، لايمكن التّخلّي عنه مهما كانت الظروف، وإلاّ كان سِبَّة يخلدها الدهر..
((وآنف من أخي لأبي وامي     **    إذا لم أجده من الكرام))
ومن أقبح الهجاء قول القائل :  ((هؤلاء قومٌ لا ينتجع معروفهم))..
والحطيئة تعرّض لمواقف عدّة من البخل، فتحوّل إلى آخرين، وهجا من قبلهم، في قصة معروفة، تسبّـبت في سجنه من قبل الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حتى استعطفه بقوله:
ماذا تقول لأفراخٍ بذي مرخٍ     **    زُغْـبُ الحواصلِ لا ماءٌ ولا شجرُ
فأطلقه -رضي الله عنه-، بعد أن استوهب منه أعراض المسلمين.
الرياض
رمضان ١٤١٤هـ المجلة العربية.