بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 10 نوفمبر 1991

قراءة في قصيدة لسمو الامير عبدالله الفيصل (مقال)

<><><><> <><> <><> <><>


اختار لفظا يوائم المعنى
والا انت ظل ما لنا فيه مقيال
قبيل سنتين تقريبا-إن اسعفتني الذاكرة-قرات في مجاة اليقظة، قصيدة للشاعر الكبير
الامير عبدالله الفيصل . اعجبتني القصيدة، فسجلتها في دفتري، وجعلتها ضمن مختاراتي،
والقصيدة عذبة الجرس، حسنة التناول، خالية من التكلف. ورغم ان موضوع القصيدة
هو العتاب. الاا ان الشاعر- كدأبه-لم يتورط في الفاظ تخرج بالعتاب الى السباب، بل كظم
غيظه، ووارى غضبه، وانصف في الوصف، بأن الحبيب ظل، وبحر زلال، وحسن الاقبال،
والقصيدة تقول:
انا بليت بحبكم من هبالي
والا انت ظل ما لنا فيه مقيال
خيرك لغيري والشقا والعنال
والمشكل اني عارف كل الاحوال
ارمى بروحى في بحرك الزلالى
وتنسفنى امواجك على يابس الجال
أسأل فراشى كيف اقضى الليالى
بالليل لي حال ومعكم لي احوال
ومن خوفى العذال تدرى بحالى
ويكثر على من العذل قيل والقال
ابعدت خلانى وجيتك لحالى
وفرشت لك قلبى مقر ومدهال
و يوم ابعدنى احبالهم عن حبالى
ودريت انك عندنا غالى الحال
ابديت عقب الحب صرف الجفالى
وخليتنى محتار فى اشهب اللال
وطلبت رب عالم ما جرى لى
ماحط دون الخلق حاجب ومرسال
ومنحنى السلوان عالى الجلالى
ورد الحياة لسالم ما طلب مال
وابعد خيالك خالقى عن خيالى
وقصر على الليل من عقب ما طال
واليوم ترسل لى وتبدى الوفا لى
وتبدى لى اعذار قصيرات واطوال
تبى تجدد ما انقطع من وصالى
ترضى غرورك بس يا حسن الاقبال
ماعاد تخدعنى عقب ما بدا لى
وان عدت فيما عفت ما نيب رجال
وكما قلت اثرت فى القصيدة، قصة واسلوبا وموقفا، ورغم اعجابي بها، الا انى تهيبت ان اكتب عنها ، وكم مرة راودتنى فكرة الدخول في عالمها ، الا انى ارتد حسيرا ، ويبدو ان معاودة قراءتي للقصيدة شجعتنى فجلست اتمعنها واستجلى معانيها ، واتصور الشاعر محلقا كالقطامى ، يعيش حرا مرتفعا ، يقتنص صيده ، ولكنه في يوم ، غرته رفت جناح ، فانقض فإذا الشبكة مهيأة ، اقتنصته واسرته ، وطرحته فى مطارحها ، ولكن دوام الحال من المحال، وكأنى به طائفا من خيال الم ثم تولى . انى اذا الخل ولى وليته ما تولى وشدنى اول ماشدنى تلك الاستهلالة الرائعة القوية الصريحة
انا بليت بحبكم من هبالى
والا انت ظل ما لنا فيه مقيال
تخيلت الشاعر الكبير واقفا مغضبا يائسا عابسا ، موجها خطابه الى شخص محبوبه، فى نبرة واضحة، ومصارحة قوية، بأنه ابتلى بحبه، لقلة دربته، وقليل خبرته، بشخصية الحبيب. كانت فاتحة القصيدة، قوية صريحة ، لم يحتج فيها الشعر الى مقدمة وحيثيات ، بل رسم موقفه، وحدد استهلاله، بدخوله مباشرة الى الموضوع، مستخدما كلمة انا بليت القوية التأثير فى موقعها. والقاريء اى قاريء عندما يقرأ ذلك، لابد وان يدركه الفضول ، ليتساءل بماذا ابتلى الشاعر ؟، وتلك تهيئة جيدة بارعة للدخول الى عالم القصيدة. والشاعر مغرم بالاستهلال ، ويبدو لى انه يعمد الى تخير ما يستهل به قصيدته -اى قصيدة كانت- وأجزم انه قرأ كثيرا عن روائع الاستهلال عند المتنبى وعند غيره، فأسرته تلك الفكرة، ولا تسعفني الذاكرة للتدليل، على ذلك سوى قصيدته.
أكاد اشك في نفسي لاني
أكاد اشك فيك وانت منى
وكفى بهذا دليلا، يوضح توفق الشاعر فى الاستهلال الجيد القوى الواضح الصريح. ورغم غضبه اى الشاعر وحنقه، الا ان شدة الغضب، لم تحجب اعترافه بأن محبوبه ظل
والا انت ظل ما لنا فيه مقيال
لقد جعل الشاعر الحبيب ظلا ظليلا واسعا ممتدا، يقى من الهاجرة وشدة القيظ، مع ما يصاحب ذلك من نسيم عليل، والمأخذ على هذا الظل الوارف، ان ليس للشاعر فيه مقيال، ثم ما الذي ارتكبه الحبيب من ذنب لا يغتفر ، جعل الشاعر يصف حبه بانه ابتلاء نتيجة هباله ولم يفصح الشاعر عن الاسباب سوى
خيرك لغيرى والشقا والعنا لى
والمشكل اني عارف كل الاحوال
ومع علمنا وادراكنا ان المحب دائما في شقاء وعناء سببه البعد والنأي والهجر والصد ، بل وبعض الشعراء يستعذب ان ينال بمساءة، طالما خطر اسمه في بال حبيبه.
لئن ساءني ان نلتنى بمسبة
لقد سرنى انى خطرت ببالكا
والخير للغير ليس فيه ضير ان كان محسوسا، ولا يدعو ذلك الى القطيعة، ولعل التفسير فيما اجمله الشاعر بقوله
(والمشكل انى عارف كل الاحوال)
وأحسب ان التجربة كشفت عن عيوب، وأبانت من غيوب والمحب ينظر الى حبيبه نظرة مثالية، قد تبعد عن الواقع المادى كثيرا، وربما يكون الحبيب كثر دغله، وساءت طويته ، فعبر الشاعر عن استيائه، واختار موقفه. ويتكرر اعتراف الشاعر بميزة ثانية للحبيب بحره زلال
(أرمى بروحى فى بحرك الزلالى
وتنسفنى امواجك على يابس الجال)
ولا شك ان الشاعر وفق فى تصوير قوة الموج وشدته باتيانه بكلمة تنسفنى والتي جاءت فى موقعها ومكانها بديعة الاختيار ، اعطت لكناية تصورا محسوسا .. ولا عجب ولا غرابة من قدرة الشاعر على حسن اختياراللفظ ومواءمته للمعنى، فتلك ميزته، فهو شاعر قطف القول لما نور، وايقظ الوجدان باعذب بيان ، وهو كغيرة من العشاق يطول ليله، يتقلب فى فراشه، لايهنأ له بال، ولا يطيب له قرار
(أسأل فراشى كيف اقضى الليالى
بالليل لى حال ومعكم لى احوال)
ومع ان الشاعر توقى خشيته العذال ، ودفعا للقيل والقال، ابعد خلانه، وجافى قرابته، وفرش قلبه مقرا محلا، وعندما ابتعدت حبال الشاعر عن ربعه وخلانه، وعلم الحبيب انه غال وأثير، اساء المعاملة، ولم يحسن المقابلة، وابدى الجفاء، واظهر الجفوة، وتنكر للمودة، وبدل بالاقبال ازورارا وبرد السلام اختصارا.
ومن خوفى العذال تدرى بحالى
ويكثر على من العذل قيل والقال
ابعدت خلانى وجيتك لحالى
وفرشت لك قلبى مقرا ومدهال
ويوم ابعدن حبالهم عن حبالي
ودريت انك عندنا غالى الحال
أبديت عقب الحب صرف الجفالى
وخليتنى محتار في اشهب اللالى
ومن خلال هذه النفسية المتقلبة، التي ليس في قربها بشاشة نجاح ،أو انشوة ارتياح ،توجه الشاعر لخالقه، ورفع طرفه، وشكى ظرفه، فأكرمه الله بالسلوان، ورد اليه حياته.
وطلبت رب عالم ما جرى لى
ما حط دون الخلق حاجب ومرسال
ومنحنى السلوان عالى الجلالى
ورد الحياة لسالم ما طلب مال
وابعد خيالك خالقى عن خيالى
وقصر على الليل عقب ما طال
وكأني بالشاعر وقد وجد فى السلوان هناءة عيش، يردد قول الشاعر :
اذا ما عتبت ولم تعتب
وهنت عليك فلم تعن بى
سلوت فلو كنت ماء الحيا
ة لعفت الورود ولم اشرب
ومع هذا فان الشاعر لم يخل من الاتصاف بحسن الانصاف، فيصف الحبيب بأنه حسن الاقبال ،فى معرض العرض عن تجديد الوصال .
تبي تجدد ما انقطع من وصالى
ترضى غرورك بس يا حسن الاقبال
ولكن الحبيب ابدى (شقاشقه وغطا مخارقه) ، اظهر ميلا وقولا جميلا ،وارسل للشاعر يمنيه بالوفاء ،بدل الجفاء ،وبالحظوة بدل الجفوة، ولكن الشاعر ادرك المكايد، وعرف المراصد ،فطوى الرشاء، واعد الرحل ،وتمثل بقول الشاعر :
ولن يزيح هموم النفس اذا حضرت
حاجات مثلك الا الرحل والجمل
فالعوائق قد بثت يمنة ويسرة ،جعلت المنى حسرة، ولم يعد ينخدع بقول جميل، وخد اسيل، وآلى على نفسه ألية ،الا يرتضي الدنية .
ما عاد تخدعني عقب ما بدا لي
وان عدت في ما عفت مانيب رجال
وأسدل الشاعر الستار على قصة حب، أورقت واظلت ،كانت بدايتها هناءة عيش، وسعادة قلبين، وتعلق روحين ،ولكن نبتة الحب لم تجد تربة صالحة ترعاها وتراعيها ،وتعهدها وتتعهدها، فذوى الحب وتعطلت دواعيه، وانكفأت اسبابه، فكانت اللحظة المأساوية ،وانتهت القصيدة ،بنهاية قوية عنيفة معبرة، ونسطيع أن نقول ان الشاعر وفق فى الاستهلال ووفق في الختام، وكانت قصيدته جميله رائعة، تنساب في رقة الى النفس، فتتفاعل معها قصة وبناء واسلوبا وموقفا.

نشرت في جريدة عكاظ  سوق العصر السنة الثالثة والثلاثون  العدد ٩٢٤١الاحد جمادى الاولى ١٤١٢هـ